فصل: (سورة المائدة: الآيات 12- 13)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وقوله: {على فَترة من الرسل} حال من ضمير {يبيّن لكم}، فهو ظرف مستقرّ، ويجوز أن يكون ظرفًا لغوًا متعلّقًا بـ {جاءكم}.
ويجوز تعلّقه بفعل {يبيّن} لأنّ البيان انقطع في مدّة الفترة.
و{على} للاستعلاء المجازي بمعنى (بَعْد) لأنّ المستعليَ يستقرّ بعد استقرار ما يستعلي هو فوقه، فشبّه استقراره بعده باستعلائه عليه، فاستعير له الحرف الدال على الاستعلاء.
والفترة: انقطاع عمل مّا.
وحرف «من» في قوله: {مِن الرسل} للابتداء، أي فترة من الزمن ابتداؤها مدّة وجود الرسل، أي أيام إرسال الرسل.
والمجيء مستعار لأمر الرسول بتبليغ الدّين، فكما سمّي الرسول رسولًا سمّى تبليغه مجيئًا تشبيهًا بمجيء المُرسَل من أحَدٍ إلى آخر.
والمراد بالرسل رُسل أهل الكتاب المتعاقبين من عهد موسى إلى المسيح، أو أريد المسيح خاصّة.
والفترة بين البعثة وبين رفع المسيح، كانت نحو خمسمائة وثمانين سنة.
وأمّا غيرُ أهل الكتاب فقد جاءتهم رسل مثل خالد بن سنان وحنظلة بن صفوان.
وقال الضحاك: أربعمائة وبضع وثلاثون سنة. وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى عليه السلام، عن الشعبي، أنه قال: ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة. والمشهور: هو القول الأول، وهو أنها ستمائة سنة. ومنهم من يقول: ستمائة وعشرون سنة. ولا منافاة بينهما؛ فإن القائل الأول أراد: ستمائة سنة شمسية، والآخر أراد قمرية، وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث سنين. ولهذا قال تعالى في قصة أهل الكهف: {ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا} أي: قمرية، لتكميل ثلاثمائة الشمسية، التي كنت معلومة لأهل الكتاب. وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل وبين محمد خاتم النبيين على الإطلاق كما ثبت في صحيح البخاري. أي إن زمن الفترة وهي المدة الزمنية التي لم يبعث فيها رسول، هي ما بين عيسى وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
و{أن تقولوا} تعليل لقوله: {قد جاءكم} لبيان بعض الحِكَم من بعثة الرسول، وهي قطع معذرة أهل الكتاب عند مؤاخذتهم في الآخرة، أو تقريعهم في الدّنيا على ما غيّروا من شرائعهم، لئلاّ يكون من معاذيرهم أنّهم اعتادوا تعاقب الرسل لإرشادهم وتجديد الدّيانة، فلعلّهم أن يعتذروا بأنّهم لمّا مضت عليهم فترة بدون إرسال رسول لم يتّجه عليهم ملام فيما أهملوا من شرعهم وأنّهم لو جاءهم رسول لاهتدَوا.
فالمعنى أن تقولوا: ما جاءنا رسول في الفترة بعد موسى أو بعد عيسى.
وليس المراد أن يقولوا: ما جاءنا رسول إلينا أصلًا، فإنّهم لا يدّعون ذلك، وكيف وقد جاءهم موسى وعيسى.
فكان قوله: {أنّ تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير} تعليلًا لمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، ومتعلّقًا بفعل {ما جَاءنا}.
ووجب تقدير لام التّعليل قبل «أن» وهو تقدير يقتضيه المعنى.
ومثل هذا التقدير كثير في حذف حرف الجرّ قبل «أن» حذفًا مطّردًا، والمقام يعيّن الحرف المحذوف؛ فالمحذوف هنا حرف اللام.
ويُشكل معنى الآية بأنّ علّة إرسال الرسول إليهم هي انتفاءُ أن يقولوا {ما جاءنا من بشير ولا نذير} لا إثباتُه كما هو واضح، فلماذا لم يُقَل: أن لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذر، وقد جاء في القرآن نظائر لهذه الآية، وفي شعر العرب كقول عمرو بن كلثوم:
فعجّلنا القِرى أنْ تَشْتُمُونا

أراد أن لا تشتمونا.
فاختلف النحْويون في تقدير ما به يتقوّم المعنى في الآيات وغيرها: فذهب البصريون إلى تقدير اسم يناسب أن يكون مفعولًا لأجله لفعل {جاءكم}، وقدّروه: «كراهية أن تقولوا»، وعليه درج صاحب الكشاف ومتابعوه من جمهور المفسّرين؛ وذهب الكوفيون إلى تقدير حرف نفي محذوف بعد «أن»، والتقدير: أنْ لا تقولوا، ودرج عليه بعض المفسّرين مثل البَغوي؛ فيكون من إيجاز الحذف اعتمادًا على قرينة السياق والمقام.
وزعم ابن هشام في «مغني اللبيب» أنّه تعسّف، وذكر أنّ بعض النحويين زعم أنّ من معاني «أن» أن تكون بمعنى «لَئِلاّ».
وعندي: أنّ الذي ألجأ النحويين والمفسّرين لهذا التأويل هو البناء على أنّ «أن» تُخلِّصُ المضارع للاستقبال فتقتضي أنّ قول أهل الكتاب: ما جاءنا بشير ولا نذير غير حاصل في حال نزول الآية، وأنه مقدّر حصوله في المستقبل.
ويظهر أنّ إفادة «أن» تخليص المضارع للمستقبل إفادة أكْثريَّة وليست بمطّردة، وقد ذهب إلى ذلك أبو حيّان وذكر أنّ أبا بكر الباقلاني ذهب إليه، بل قد تفيد «أن» مجرد المصدرية كقوله تعالى: {وأن تصوموا خير لكم} [البقرة: 183]، وقول امرىء القيس:
فإمَّا تَرَيْني لا أغمّض ساعة ** مِن الليل إلاّ أن أكبّ وأنْعَسَا

فإنّه لا يريد أنّه ينعس في المستقبل.
وأنّ صَرْفَها عن إفادة الاستقبال يعتمد على القرائن، فيكون المعنى هنا أنّ أهل الكتاب قد قالوا هذا العذر لمن يلومهم مثل الّذين اتّبعوا الحنيفية، كأمية بن أبي الصلت وزيدِ بن عمرو بن نُفيل، أو قاله اليهود لنصارى العرب. اهـ.

.قال الفخر:

الفائدة في بعثة محمد عليه الصلاة والسلام عند فترة من الرسل هي أن التغيير والتحريف قد تطرق إلى الشرائع المتقدمة لتقادم عهدها وطول زمانها، وبسبب ذلك اختلط الحق بالباطل والصدق بالكذب، وصار ذلك عذرًا ظاهر في اعراض الخلق عن العبادات.
لأن لهم أن يقولوا: يا إلهنا عرفنا أنه لابد من عبادتك ولكنا ما عرفنا كيف نعبد، فبعث الله تعالى في هذا الوقت محمدًا عليه الصلاة والسلام إزالة لهذا العذر، وهو {أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ} يعني إنما بعثنا إليكم الرسول في وقت الفترة كراهة أن تقولوا: ما جاءنا في هذا الوقت من بشير ولا نذير.
ثم قال تعالى: {فَقَدْ جَاءكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} فزالت هذه العلة وارتفع هذا العذر. اهـ.

.قال الألوسي:

والفاء في قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُم بَشيرٌ وَنَذيرٌ} تفصح عن محذوف ما بعدها علة له، والتقدير هنا لا تعتذروا فقد جاءكم وتسمى الفاء الفصيحة، وتختلف عبارة المقدر قبلها، فتارة يكون أمرًا أو نهيًا، وتارة يكون شرطًا كما في قوله تعالى: {فهذا يوم البعث} [الروم: 56]، وقول الشاعر:
فقد جئنا خراسانًا

وتارة معطوفًا عليه كما في قوله تعالى: {فانفجرت} [البقرة: 60] وقد يصار إلى تقدير القول كما في الفرقان (19) في قوله تعالى: {فقد كذبوكم}، وإن شئت قدرت هنا أيضًا فقلنا: لا تعتذروا فقد الخ، وقد صرح بعض علماء العربية أن حقيقة هذه الفاء أنها تتعلق بشرط محذوف، ولا ينافي ذلك إضمار القول لأنه إذا ظهر المحذوف لم يكن بدّ من إضمار ليرتبط بالسابق فيقال: في البيت مثلًا، وقلنا، أو فقلنا: إن صح ما ذكرتم فقد جئنا خراسانًا، وكذلك ما نحن فيه فقلنا: لا تعتذروا فقد جاءكم، ثم إنه في المعنى جواب شرط مقدر سواء صرح بتقديره أم لا لأن الكلام إذا اشتمل على مترتبين أحدهما على الآخر ترتب العلية كان في معنى الشرط والجزاء، فلا تنافي بين التقادير.
والتقادير المختلفة، ولو سلم التنافي فهما وجهان ذكروا أحدهما في موضع والآخر في آخر كما حققه في «الكشف» وقد مرت الإشارة من بعيد إلى أمر هذه الفاء فتذكر، وتنوين بشير ونذير) للتفخيم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {فقد جاءكم بشير ونذير} الفاء فيه للفصيحة، وقد ظهر حسن موقعها بما قرّرتُ به معنى التعليل، أي لأن قلتم ذلك فقد بطل قولكم إذ قد جاءكم بشير ونذير.
ونظير هذا قول عباس بن الأحنف:
قالوا خراسانُ أقصى ما يُراد بنا ** ثم القُفُول فقد جئْنا خُراسانا

. اهـ.

.قال الفخر:

قال تعالى: {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ}
المعنى أن حصول الفترة يوجب احتياج الخلق إلى بعثة الرسل، والله تعالى قادر على كل شيء، فكان قادرًا على البعثة، ولما كان الخلق محتاجين إلى البعثة، والرحيم الكريم قادرًا على البعثة وجب في كرمه ورحمته أن يبعث الرسل إليهم، فالمراد بقوله: {والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} الإشارة إلى الدلالة التي قررناها. اهـ.

.قال السمرقندي:

{والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} من المغفرة والعذاب وبعث الرسل. اهـ.

.قال أبو السعود:

{والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ} فيقدِرُ على الإرسال تترى كما فعله بين موسى وعيسى عليهما السلام حيث كان بينهما ألفٌ وسبعُمائة سنة وألفُ نبيَ وعلى الإرسال بعد الفترة كما فعله بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، حيث كان بينهما ستُمائة سنةٍ أو خمسُمائةٍ وتسعٌ وستون سنةً أو خمسُمائةٍ وستٌ وأربعون سنةً وأربعةُ أنبياءَ على ما روى الكلبيّ ثلاثةٌ من بني إسرائيلَ وواحدٌ من العرب خالد بن سنان العبسي، وقيل: لم يكن بعد عيسى عليه السلام إلا رسولُ الله عليه السلام وهو الأنسبُ بما في تنوين {فترةٍ} من التفخيم اللائق بمقام الامتنان عليهم بأن الرسول قد بُعث إليهم عند كمالِ حاجتهم إليه بسبب مضيِّ زمانٍ طويل بعد انقطاعِ الوحي ليهشّوا إليه ويعُدّوه أعظمَ نعمةٍ من الله تعالى، وفتحَ بابٍ إلى الرحمة، وتلزَمُهم الحجةُ فلا يَعتلُّوا غدًا بأنه لم يُرسَلْ إليهم من يُنبِّههم من غفلتهم. اهـ.

.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة المائدة: الآيات 12- 13]

{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}.
لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم اللَّه بالمسير إلى أريحاء أرض الشام وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة، وقال لهم: إنى كتبتها لكم دارًا قرارًا، فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها، وإنى ناصركم، وأمر موسى عليه السلام بأن يأخذ من كل سبط نقيبًا يكون كفيلا على قومه بالوفاء بما أمروا به توثقه عليهم، فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بنى إسرائيل، وتكفل لهم به النقباء وسار بهم، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون، فرأوا أجرامًا عظيمة وقوّة وشوكة فهابوا ورجعوا وحدّثوا قومهم وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم، فنكثوا الميثاق، إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا، ويوشع بن نون من سبط أفراييم بن يوسف، وكانا من النقباء.